العمل الخيري المعاد تصوره

ميليسا بيرمان، الرئيس والمدير التنفيذي لمنظمة ’روكفلر للاستشارات الخيرية‘ تتحدث عن دور العمل الخيري في إحداث التغيير الاجتماعي

Shutterstock 1783335686

ميليسا بيرمان، هي الرئيس المؤسس والمدير التنفيذي لمنظمة ’روكفلر للاستشارات الخيرية‘Rockefeller Philanthropy Advisors (RPA) التي قادتها لأكثر من عقدين من الزمن. وتعتبر ’روكفلر للاستشارات الخيرية‘ واحدة من أكبر منظمات الخدمات الخيرية في العالم، حيث قامت بتسهيل تقديم أكثر من 4 مليارات دولار من المنح لأكثر من 70 دولة حول العالم. وتقدم المنظمة حالياً خدمات الاستشارة وتقوم بإدارة أكثر من 500 مليون دولار من المنح السنوية المقدمة من الأفراد والعائلات والمؤسسات الخيرية والشركات. وفي عام 2023، أعلنت ميليسا أنها ستتنحى عن منصبها في ’روكفلر للاستشارات الخيرية‘ لكنها ستبقى رئيساً مؤقتاً للمنظمة إلى حين العثور على البديل المناسب.

"لم أقدم بعد أي منحة لأنني مازلت أبحث عن الفرصة المثالية"، "أدرجت هبات في وصيتي بدلاً من التبرع الآن لأنني لا أريد أن يخبرني أي شخص بأنني قد ارتكبت خطأ"، "عليك أن تريني كيف ستحدث أموالي فرقاً"، "أعرف كيف أقدم المساعدة للكلية التي تخرجت منها أو لمتحفاً ما، ولكن كيف أساعد الأطفال على التمتع بحياة أفضل؟"

هذه العبارات هي اقتباسات حرفية لما قاله بعض الأشخاص الذين تحدثت إليهم على مر السنوات. ومن المفارقة أن نجد الكثير من الشك وعدم اليقين يحيط بالعطاء. فالعمل الخيري لا بد أن يكون أمراً سهلاً وواضحاً إذ في النهاية تشجع جميع الديانات والثقافات تقريباً على عمل الخير. مع ذلك، فإننا غالباً ما نشعر بسهولة العمل الخيري عندما تكون الهبة بحد ذاتها هي الغاية ويكون الوفاء بالالتزام هو الهدف. أما عندما يكون القصد من العطاء هو إحداث تغيير ملموس، فإن الأمور تكون أكثر تعقيداً من ذلك.

في أواخر عام 2000، اتخذت عائلة روكفلر قراراً في مكتبها العائلي بتأسيس منظمة ’روكفلر للاستشارات الخيرية‘ أو ما يعرف اختصاراً بـ ’أر بي أيه‘ RPA. وقد كانت هذه الفترة بمثابة العصر الذهبي الثاني للعمل الخيري، الذي حفزه جيل جديد من أصحاب الثروة، وقد اتخذت مؤسسات خيرية شكلها أو حددت نطاقها في تلك الحقبة مثل مؤسسة غيتس ومور وتيرنر وباكارد وهيوليت.

وقمنا في ’أر بي أيه‘ بطرح سؤال بسيط وجوهري حول التأثير المحتمل لمنظمتنا وهو: كيف يمكننا التأكد من أن الموارد التي تتدفق ستساهم بشكل إيجابي في تغذية الأرض التي تصل إليها بدلاً من إغراقها والتسبب بتدميرها؟

لكن في ذلك الوقت لم يكن هناك سوى القليل من النماذج للمساعدة في الإجابة على هذا السؤال. ولذلك استرشدنا في ’أر بي أيه‘ بالقيم الدائمة لعمل عائلة روكفلر الخيري ألا وهي احترام القطاع غير الربحي، والتركيز على القيم بدلاً من وجهات النظر، والالتزام بنظرة عالمية طويلة المدى، والالتزام بالإدارة السليمة.

ونظراً للتاريخ الطويل لعائلة روكفلر في إشراك المتخصصين في مجال العمل الخيري منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، فقد كنا نهدف إلى بناء نهج احترافي قائم على المعرفة لهذا المسعى الطويل الأمد. ولهذا السبب بالذات، ركّز بيان المهمة الخاص بـ ’أر بي أيه‘ على  "العمل الخيري المدروس والفعّال". علاوة على ذلك، سعينا إلى توضيح فكرة أن اتباع نهج مدروس في العمل الخيري يعزز الفعالية ولذلك التزمنا منذ البداية بتطوير الأفكار القيمة وتبادلها.

وقمنا مؤخراً بإصدار كتاب جديد نأمل أن يكون بمثابة نقطة انطلاق للأشخاص حديثي العهد بالعمل الخيري ودليلاً لأولئك الذين التزموا بالفعل بهذه الرحلة وقد كرسوا حياتهم لها. ونستفيد في هذا الكتاب المؤلف من جزأين من الدروس المستمدة من إرثنا الواسع والعمل الذي قامت به ’أر بي أيه‘ على مدار العقدين الماضيين.

ويأتي إصدار كتاب "العمل الخيري المعاد تصوره" Reimagined Philanthropy في الوقت المناسب إذ يتزامن مع فترة يواجه فيها مفهوم العمل الخيري والعالم الذي يسعى إلى تحسينه تحدياتٍ وفرصاً كبيرة. وكان المجاز الذي يشير إلى الجدول الذي تتغلل مياهه في أعماق الأرض وتغذيها من جهة والفيضانات السريعة التي تغرق الأرض وتدمرها مفيداً جداً بالنسبة لـ ’أر بي أيه‘ حيث ساعدها في التركيز على المشهد الخيري بأكمله، فضلاً عن تعزيز العلاقات الدائمة، وإعطاء الأولوية للتقدّم المستدام على الحلول الجذابة القصيرة الأجل.

Shutterstock 1900557121

أحدثت جائحة كوفيد-19 اضطراباW في المجتمعات، مما أدى إلى ظهور احتياجات اجتماعية جديدة. الصورة: شاترستوك.

لقد واجهنا جميعنا - نحن المشاركون في العمل الخيري - تحديات كبيرة وصادمة على مدى العقدين الماضيين، لا سيما أحداث مثل الحادي عشر من سبتمبر، والإبادات الجماعية والحروب، والكوارث الطبيعية التي يسببها الإنسان، والركود الكبير، وجائحة كوفيد-19، ومقتل جورج فلويد المأساوي وتصاعد الاستقطاب والحكم الاستبدادي. لقد زعزعت هذه الأحداث المؤلمة فهمنا لكيفية عمل العالم. وأصبح الكثيرون منا، وليس فقط في ’أر بي أيه‘، يتساءلون ليس فقط عن مساهمتنا المحتملة في هذه المشكلات بل عن ما يمكننا القيام به لنكون جزءاً من الحل.

والأمر الأكثر أهمية هو أن تزايد اتساع فجوة عدم المساواة والآثار الضارة لتغير المناخ قد أصبحا أمرين جليين في جميع أنحاء العالم. كما أصبحت أنظمة الرأسمالية والسلطة التي تدعم الكثير من الأعمال الخيرية موضع تساؤل، مما يلقي بظلال من الشك على شرعية المساعي الخيرية. علاوة على ذلك، أصبح الشعور بالثقة شحيحاً، مما يترتب عليه في الكثير من الحالات انعدم للثقة في أي معلومات لا تتوافق مع آراء الفرد.

وهناك أيضاً تحدياتٍ ثابتة، لكنها بطبيعة الحال ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمور من قبيل: كيف يمكننا تحديد ما "ينجح" حقاً في مجال العمل الخيري؟ وكيف يمكننا تعريف النجاح؟ وما هو الإطار زمني؟ وماذا يعني "إنقاذ" الحياة؟ وهنا يمكننا الإشارة إلى ما قاله الراحل بول فارمر بأنه يستطيع الحصول على تمويل لعلاج الأشخاص من مرض السل ليلقى هؤلاء الأشخاص حتفهم بسبب سوء التغذية.

وهذا يؤكد بطريقة بارعة أن العمل الخيري، في جوهره، يعالج "المشاكل المعقدة" - وهي قضايا تفتقر إلى تعريف متفق عليه (ما هو الفقر بالتحديد؟) أو حل (كيف يبدو المجتمع الصحي؟). وبالنسبة لمثل هذه المشاكل تكون الأساليب والنتائج موضع خلاف، وغالباً ما يكون تأثيرها على المدى الطويل غير واضح أو ريما يُصعب تحديده.

وبالتالي، لا تزال ’أر بي أيه‘ والمنظمات النظيرة تواجه شكوكاً حيال فكرة أن العمل الخيري يتمتع بقاعدة معرفية شاملة حول القضايا وأفضل الممارسات.

"في حين لا يستطيع العمل الخيري أن يحل كل هذه التحديات بمفرده، فإنه يمتلك القدرة على تسريع التقدم نحو عالم أكثر عدلاً".

في ’أر بي أيه‘، حاولنا أن نكون واضحين في التمييز بين ما نعنيه بالنتائج - مثل تحسين درجات الأطفال في اختبارات الرياضيات - والتأثير الحقيقي الذي نهدف إليه  - مثل تزويد جميع الأطفال بتعليم جيد قادر على تغيير مسار مستقبلهم. علاوة على ذلك، نحاول أن نكون واضحين في فكرة أن استخدام عدسة الإنصاف والعدالة يمكن أن يعيد تشكيل الأسئلة التي نطرحها، ويغير ديناميات السلطة التي نتصورها، ويؤثر على الحلول المحتملة التي نأمل في الوصول إليها.

وعلى الرغم من هذه التعقيدات، فإن إمكانات العمل الخيري ربما لم تكن أكبر من أي وقت مضى. فقد شهدنا خلال العقدين الماضيين ظهور ثقافة عالمية للعطاء، مع توقعات من كل من الأقران والشخصيات المؤثرة بأن يكون أولئك الذين يملكون الإمكانيات كرماء وأن يشاركوا بنشاط في دعم القضايا الملحّة. كما حفزت قوة الإنترنت، إلى جانب الحركات العالمية، الكثيرين منهم على التفاعل مع الأحداث خارج مجتمعاتهم المحلية وداخلها.

ترغب الأجيال الجديدة، والمنغمسة بعمق في المشهد الرقمي، في الاستفادة من جميع الموارد المتاحة لإحداث تأثير إيجابي الآن، وعدم تأجيل هذه الجهود إلى وقت لاحق في الحياة. وقد أصبح هناك المزيد من المانحين على استعداد لتقديم التزامات جوهرية لمواجهة التحديات الكبيرة، وهو ما يعني أنهم على استعداد كذلك للتعاون مع ممولين آخرين لتوسيع النطاق وتبادل المعارف. كما توفر الأدوات الحديثة مثل الاستثمار المؤثر، ووسائل التواصل الاجتماعي، وريادة الأعمال الاجتماعية مسارات جديدة لقيادة التغيير الإيجابي.

إن ما يتكشف حالياً مثير حقاً: إنها مرحلة من إعادة النظر المدروس في كيف يعمل (أو لا يعمل) رأس المال والرأسمالية وكيف ينبغي (أو لا ينبغي) ممارسة السلطة والامتيازات، ومدى فعالية (أو عدم فعالية) السياسات الضريبية، وكيف يمكن تحقيق الثقة والاحترام وجبر الضرر والعدالة والإنصاف.

وفي حين لا يستطيع العمل الخيري أن يحل كل هذه التحديات بمفرده، فإنه يمتلك القدرة على تسريع التقدم نحو عالم أكثر عدلاً.

هذه المقالة هي نسخة مختصرة ومنقحة لمقدمة ميليسا في كتاب "العمل الخيري المعاد تصوره: خريطة طريق إلى عالم أكثر عدلاً" الصادر عن ’روكفلر للاستشارات الخيرية‘. يمكنك قراءة النص الكامل للكتاب وتنزيله هنا.